الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} قوله عز وجل: {ليسوا سواء} قال ابن عباس: لما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود ما آمن محمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي وقوله: {ليسوا سواء} قولان أحدهما أنه كلام تام يوقف عليه والمعنى أهل الكتاب الذي سبق ذكرهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ليسوا سواء، وقيل معناه لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق. والقول الثاني أن قوله: {ليسوا سواء} متعلق بما بعده ولا يوقف عليه وقوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة} فيه اختصار وإضمار والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة غير قائمة فترك ذكر الأمة الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين وهذا على مذهب العرب أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الآخر قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني امرؤ لها *** مطيع فلا أدري أرشد طلابها أراد أم غير رشد فاكتفى بذكر أحد الرشدين دون الآخر. وقال الزّجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأنه قد جرى ذكر أهل الكتاب بقوله: كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فأعلم الله أن منهم أمة قائمة فلا حاجة بنا إلى أن نقول وأمة غير قائمة إنما ابتدأ فعل الأكثر منهم وهو الكفر والمشاقة، ثم ذكر من كان مبايناً لهم في فعلهم فقال: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة» قال ابن عباس: قائمة أي مهدية قائمة على أمر الله تعالى لم يضعوه ولم يتركوه، وقيل قائمة أي عادلة وقيل قائمة على كتاب الله عز وجل وحدوده وقيل: قائمة في الصلاة {يتلون آيات الله} أي يقرؤون كتاب الله عز وجل: {آناء الليل} يعني ساعاته {وهم يسجدون} يعني يصلون، عبر بالسجود عن الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود وقيل: هي صلاة التهجد بالليل وقيل هي صلاة العشاء لأن اليهود لا يصلونها وقيل يحتمل أنه أراد بالسجود الخضوع والخشوع لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً وقال عطاء في قوله تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وكانوا عدة نفر من الأنصار منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا قبل الإسلام موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلىلله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه، ثم وصفهم الله تعالى بصفات ما كانت في اليهود فقال: {يؤمنون بالله واليوم الآخر} وذلك لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون، وقيل إن الإيمان بالله يسلتزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله واليهود يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من فعل المعاصي واليهود لا يحترزون منها فلم يحصل الإيمان الخالص بالله واليوم الآخر {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} يعني غير مداهنين كما يداهن اليهود بعضهم بعضاً. وقيل يأمرون بالمعروف يعني بتوحيد الله تعالى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وينهون عن المنكر يعني عن الشرك وعن كتم صفة محمد صلى الله عليه وسلم {ويسارعون في الخيرات} أي يبادرون إليها خوف الفوت وذلك أن من رغب في أمر سارع إليه وقام به غير متوان عنه وقيل يسارعون في الخيرات غير متثاقلين ولا كسالي {وأولئك} إشارة إلى الموصوفين بما وصفوا به {من الصالحين} أي من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله عز وجل ورضي عنهم واستحقوا ثناءه عليهم، وذلك لأن الصلاح ضد الفساد فإذا حصل الصلاح للإنسان فقد حصل له أعلى الدرجات وأكمل المقامات وقيل يحتمل أن يراد بالصالحين المسلمون والمعنى أولئك الذين تقدم وصفهم من جملة المسلمين.
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} قوله عز وجل: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} قرئ بالياء لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب وذلك أن اليهود لما قالوا لعبدالله بن سلام وأصحابه إنكم خسر ثم بسبب هذا الدين الذي دخلتم فيه فأخبر الله تعالى أنهم فازوا بالدرجات العلى وما فعلوه مكن خير يجازيهم به ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فيدخل فيه كل فاعل للخير وقرئ بالتاء على أنه ابتداء كلام وهو خطاب لجميع المؤمنين ويدخل فيه مؤمنوا أهل الكتاب أيضاً ومعنى الآية وما تفعلوا من خير أيها المؤمنون فلن تكفروه أي فلن تعدموا ثوابه ولن تجرموه أو تمنعوه بل يشكره لكم ويجازيكم به {والله عليم بالمتقين} فيه بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل الإيمان والتقوى. قوله عز وجل: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} قال ابن عباس: يريد بني قريظة والنضير وذلك أن رؤساء اليهود مالوا إلى تحصيل الأموال في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان مقصودهم بمعاداته تحصيل الرياسة والأموال فقال الله عز وجل: {لن تغني عنهم أموالهم} وقيل: نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بالأموال وأنفق أبو سفيان مالاً كثيراً في يومي بدر وأحد على المشركين وقيل: إن الآية عامة في جميع الكفار لأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراء اللفظ على عمومه ومعنى الآية: {إن الذين كفروا لن تغني} أي تذفع أموالهم بالفدية لو افتدوا بها من عذاب الله ولا أولادهم بالنصر وإنما خص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بالفداء بالمال وتارة بالاستعانة بالأولاد فأعلم الله تعالى أن الكافر لا ينفعه شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص له من عذاب الله وهو قوله: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لا يخرجون منها ولا يفارقونها قوله عز وجل: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم وقيل: أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا وقيل: أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى وذلك لأن إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وان كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق ويعمل أعمال البر فإن كان كافراً فإن الكفر محبط لجميع أعمال البر فلا ينتفع بما أنفق في الدنيا لأجل الآخرة وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى فإنه لا ينتفع بنفقته في الآخرة ثم ضرب لذلك الإنقاق مثلاً فقال تعالى: {كمثل ريح فيها صر} فيه وجهان: أحدهما وهو قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة إن الصر البرد الشديد وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد: والوجه الثاني أن الصر هو السموم الحارة التي تقتل وهو رواية عن ابن عباس وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة وعلى الوجهين فالتشبيه صحيح والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة أو حر فهي مهلكة أيضاً {أصابت} يعني الريح التي فيها صر {حرث قوم} أي زرع قوم {ظلموا أنفسهم} يعني بالكفر والمعاصي ومنع حق الله فيه {فأهلكته} يعني فأهلكت الريح الزرع ومعنى الآية مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع به أصحابه. فإن قلت الغرض تشبيه ما أنفقوا وأبطال ثوابه وعدم الانتفاع به الحرث الذي هلك بالريح فكيف شبهه بالريح المهلكة للحرث؟ قلت هو من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين فعلى هذا زال الإشكال ومن التشبيه ما حصلت فيه المشابهة بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإن جعلنا هذا المثل من هذا القسم ففيه وجهان: أحدهما أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث. الوجه الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك الريح وهو الحرث والمقصود من ضرب هذا المثل هو تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية ولا يبقى منه شيء. وقوله تعالى: {وما ظلمهم الله} يعني بأن لم يقبل نفقاتهم {ولكن أنفسهم يظلمون} يعني أنهم عصوا الله فاستحقوا عقابه فأبطل نفقاتهم وأهلك حرثهم وقيل ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بنفقاتهم مستحقة للقبول. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} الآية قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم ويدل على صحة هذا القول أن الآيات المتقدمة فيها ذكر اليهود فتكون هذه الآية كذلك. وقيل كان قوم من المؤمنين يصافون المنافقين ويفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فنهاهم الله عن ذلك وحجة هذا القول أن الله ذكر في سياق هذه الآية قوله: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} وهذه صفة المنافقين لا صفة اليهود وقيل المراد بهذه جميع أصناف الكفار، ويدل على صحة هذا القول معنى الآية لأن الله تعالى قال لا تتخذوا بطانة من دونكم فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من دون المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار والبطانة خاصة الرجل المطلع على سره واشتقاقه من بطانة الثوب بدلالة قولهم لبست فلاناً إذا اختصصته، ويقال فلا شعاري ودثاري والشعار الذي يلي الجسد وكذلك البطانة والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد القرب يسمي بطانة لأنه يستبطن أمره ويطلع منه على ما لا يطلع عليه غيره {من دونكم} قبل من صلة زائدة والتقدير لا تتخذوا بطانة دونكم، وقيل من للتبيين أي لا تتخدوا بطانة من دون أهل ملتكم والمعنى لا تتخذوا أولياء ولا أصفياء من غير أهل ملتكم ثم بين سبحانه وتعالى علة النهي عن مباطنتهم فقال تعالى: {لا يألونكم خبالاً} يعني لا يقصرون ولا يتركون جهدكم فيما يورثكم الشر والفساد وهو الخبال لأن أصل الخبال الفساد والضرر الذي يلحق الإنسان فيورثه نقصان العقل {ودوا ما عنتم} أي يودون عنتكم وهو ما يشق عليكم من الضرر والشر والهلاك والعنت المشقة {قد بدت البغضاء من أفواههم} أي ظهرت العداوة من أفواقهم بالشتيمة والوقيعة بين المسلمين وقيل هو إطلاع المشركين على أسرار المؤمنين {وما تخفي صدورهم} يعني من العداوة والغيظ {أكبر} أي أعظم مما يظهرونه {قد بينا لكم الآيات} يعني الدالة على وجوب الإخلاص في الدين من موالاة المؤمنين ومعادة الكافرين {إن كنتم تعقلون} يعني ما بين لكم فتتعظون به.
{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} قوله تعالى: {ها أنتم} ها للتنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور {أولاء} اسم للمشار إليهم في قوله {تحبونهم} والمعنى أنتم إليها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم وبينهم من القرابة والرضاع والمصاهرة والحلف {ولا يحبونكم} يعني اليهود لما بينكم وبينهم من المخالفة في الدين، وقيل تحبونهم يعني تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر وهو شر الأشياء لأن فيه هلاك الأبد وقيل هم المنافقون تحبونهم لما أظهروا من الإيمان وأنتم لا تعلمون ما في قلوبهم ولا يحبونكم لأن الكفر ثابت في قلوبهم وقيل تحبونهم وذلك بأن تفشوا إليهم أسراركم ولا يحبونكم أي لا يفعلون مثل ذلك معكم {وتؤمنون بالكتاب كله} يعني وهم لا يؤمنون وإنما ذكر الكتاب بلفظ الواحد والمراد به الجمع لأنه ذهب به إلى الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس والمعنى أنكم تؤمنون بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم {وإذا لقوكم قالوا آمنا} يعني أن الذين وصفهم في هذه الآية بهذه الصفات إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم وهذه صفة المنافقين وقيل هم اليهود {وإذا خلوا} أي خلا بعضهم إلى بعض {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} الأنامل جمع أنملة وهي طرف الأصبع والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا العداوة وشدة الغيظ، على المؤمنين لما يرون من ائتلافهم واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال وان لم يكن هناك عض كما يقال عض يده من الغيظ والغضب {قل موتوا بغيظكم} هذا دعاء عليهم أن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به وذلك لما يرون من قوة الإسلام وعزة أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي والمعنى ابقوا إلى الممات بغيظكم {إن الله عليم بذات الصدور} يعني به الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه كنى عنها بذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر فأخبرهم أنه عليم بما يسرونه من عض الأنامل غيظاً إذا خلوا وأنه عليم بما هو أخفى منه وهو ما يسرونه في قلوبهم. قوله عز وجل: {إن تمسسكم} أي تصبكم أيها المؤمنون وأصل المس باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى شيء ماساً له على سبيل التشبيه كما يقال مسه نصب وتعب أي أصابه {حسنة} المراد بالحسنة هنا منافع الدنيا مثل ظهوركم على عدوكم وإصابتكم غنيمة منهم وتتابع الناس في الدخول في دينكم وخصب في معايشكم {تسؤهم} أي تحزنهم وتغمهم والسوء ضد الحسنى {وإن تصبكم سيئة} أي مساءة من إخفاق سرية لكم أو إصابة عدو منكم أو أختلاف يقع بينكم أو غدر ونكبة ومكروه يصيبكم {يفرحوا بها} أي بما أصابكم من ذلك المكروه {وإن تصيروا} يعني على أذاهم وقيل إن تصبروا على طاعة الله وما ينالكم فيها من شدة {وتتقوا} أي تخالفوا ربكم وقيل وتتقوا ما نهاكم عنه وتتوكلوا عليه {لا يضركم} أي لا ينقصكم {كيدهم} أي عداوتهم ومكرهم {شيئاً} أي لأنكم في عناية الله وحفظه {إن الله بما يعملون} قرئ بالياء على الغيبة والمعنى أنه عالم بما يعملون من عداوتكم وأذاكم فيعاقبهم عليه وقرئ بالتاء على خطاب الحاضر والمعنى أنه عالم بما تعملون أيها المؤمنون من الصبر والتقوى فيجازيكم عليه {محيط} أي عالم بجميع ذلك حافظ لا يعزب عنه شيء منه.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)} قوله عز وجل: {وإذا غدوت من أهلك تبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال} قال جمهور المفسرين إن هذا كان يوم أحد وهو قول عبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن إسحاق، وقال الحسن ومجاهد ومقاتل: إنه يوم الأحزاب ونقل عن الحسن أيضاً أنه يوم بدر قال ابن جرير الطبري الأول أصح لقوله تعالى: {إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا} وقد اتفق العلماء ان ذلك كان يوم أحد قال مجاهد والكلبي والواقدي غداً رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبدالله بن أبي سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبدالله بن أبيّ وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليه فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب لئلا يروا انا جبنا عنهم وضعفنا وخفناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد رأيت في منامي بقراً فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر وإن دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلهم في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله ولبس لأمته فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقال بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: يا رسول الله اصنع ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل» وكان قد قام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة، وكان قد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه ثم خرج عليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة. وقيل كان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وأصحابه إلى أحد وأمر عبدالله بن جبير على الرماة. وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوا الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام» ولما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبدالله بن أبي ابن سلول شق عليه ذلك وقال لأصحابه أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا أنتم فيتبعونكم فيصير الأمر إلى خلاف ما قاله محمد لأصحابه فلما التقى الجمعان وكان عسكر المسلمين ألفاً وكان المشركون ثلاثة آلاف انخذل عبدالله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من أصحابه من المنافقين وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة من أصحابه فقواهم الله تعالى وثبتهم حتى هزموا المشركين. فلما رأى المؤمنون انهزام المشركين طمعوا في أن تكون هذه الواقعة كوقعة بدر فطلبوا المدبرين وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد الله أن يقطعهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مثله من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر إنما كان ببركة طاعة الله وطاعة رسوله. ثم إن الله تعالى نزع الرعب من قلوب المشركين فكروا راجعين على المسلمين فانهزم المسلمون وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه منهم أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج وجهه يومئذ وكان من أمر غزو أُحد ما كان فذلك قوله تعالى: {وإذ غدوت من أهلك} أي واذكر إذ غدوت من أهلك يعني منزل عائشة ففيه منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها لقوله من أهلك فنص الله تعالى على أنها من أهله تبوئ المؤمنين أي تنزل المؤمنين مقاعد للقتال أي مواضع ومواطن للقتال. وقيل تتخذ عسكراً للقتال {والله سميع} يعني لأقوالكم {عليم} يعين بنياتكم وضمائركم.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} قوله عز وجل: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} أي تجبنا وتضعفنا عن القتال والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس كان جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد مع ألف رجل، وقيل في تسعمائة وخمسين رجلاً وكان المشركون ثلاثة آلاف رجل فلما بلغوا الشوط انخذل عبدالله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاثمائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعه أبو جابر السلمي وقال أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال عبدالله بن أبي لو نعلم قتالاً لاتبعناكم وهمّت الطائفتان بالانصراف مع عبدالله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: أضمروا أن يرجعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا فذكرهم الله عظيم نعمته عليهم فقال: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا {والله وليهما} أي ناصرهما وحافظهما ومتولي أمرهما بالتوفيق والعصمة. فإن قلت الهم العزم على فعل الشيء والآية تدل على أن الطائفتين قد عزمتا على الفشل وترك القتال وذلك معصية فكيف مدحهما الله تعالى بقوله والله وليهما. قلت الهم قد يراد به العزم وقد يراد به حديث النفس وإذا كان كذلك فحمل الهم على حديث النفس هنا أولى والله تعالى لا يؤاخذ بحديث النفس ويعضده قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم الله لهم على الرشد وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحهم الله تعالى بقوله والله وليهما (ق) عن جابر قال: نزلت فينا: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله والله وليهما ففيه الاستبشار بما حصل لهم من الشرف العظيم، وإنزاله فيهم آياته ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى. وقوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} التوكل تفعل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير وقيل هو تفويض الأمر إلى الله تعالى ثقة بحسن تدبيره فأمر الله عباده المؤمنين أن لا يتوكلوا إلاّ عليه وأن لا يفوضوا أمرهم إلاّ إليه. قوله عز وجل: {ولقد نصركم الله ببدر} اسم موضع بين مكة والمدينة معروف وقيل هو اسم لبئر هناك وكانت البئر لرجل يقال له بدر فسميت به. ذكر الله المؤمنين منته عليهم بالنصر يوم بدر {وأنتم أذلة} جمع ذليل وهو جمع قلة وأراد به قلة العدد فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وفي رواية وثلاثة عشر رجلاً والمراد بذلتهم ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو وذلك أنهم خرجوا على مواضح وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد. وكان أكثرهم رجالة ولم يكن معهم إلاّ فرس واحد وكان عدوهم من كفار قريش في حال الكثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس وكان معهم السلاح والشوكة فنصر الله المؤمنين مع قلتهم على عدوهم مع كثرتهم {فاتقوا الله} يعني في الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لعلكم تشكرون} يعني بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. قوله عز وجل: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} اختلف المفسرون في أن هذا الوعد بإنزال الملائكة هل حصل يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أنه كان يوم بدر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله بألف من الملائكة كما قال: إن تستغيثون ربكم فاستجاب لكم: {أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خسمة آلاف كما ذكر ههنا {بلى إن تصبروا واتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة} فصيروا يوم بدر وتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد. قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في معركة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً أو مدداً، وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ألن يكفيكم إلى قوله مسومين فبلغ كرزاً الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضاً بالخمسة آلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» واحتج لصحة هذا القول أيضاً بأن الله تعالى قال قبل هذه الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وظاهر هذا يقتضي أن الله نصرهم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ولأن العدد والعدد كانت يوم بدر قليلة وكان الاحتياج إلى الإمداد أكثر. القول الثاني إن هذا الوعد بإنزال الملائكة كان يوم أحد وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل. قال عمير بن إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل، ولا بعد يعني جبريل وميكائيل» واحتج لصحة هذا القول بأن المدد كان يوم بدر بألف من الملائكة كما نص عليه في سورة الإنفاق ولم يكن بثلاثة آلاف ولا بخمسة آلاف كما هنا وأيضاً أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منهم وكان المسلمون على الثلث من ذلك فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر فأنزل الله يوم بدر ألفاً من الملائكة في مقابلة عدد الكفار فوقع النصر يومئذٍ للمسلمين والهزيمة للكفار، وكان عدد المسلمين يوم أحد ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فناسب أن يكون المدد يومئذٍ للمسلمين ثلاثة آلاف من الملائكة ليكون ذلك مقابلاً لعدد الكفار كما في يوم بدر. وأجيب عن الاحتجاج الأول لهذا القول بأن الله تعالى أمدهم يوم بدر ألف كما ذكر في سورة الأنفال ثم لما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمداد كرز لكفار قريش شق عليهم وعدوا بأن يمدوا بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف لتقوى قلوبهم بذلك. وأجيب عن الثاني وهو أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً وفي يوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف بأن هذا التقريب حسن لله أن يزيد ما شاء في أي وقت شاء ولهذا قال عكرمة في قوله تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا} قال يوم بدر قال ولم يصبروا ولم يتقوا يوم أحد فلم يمدوا ولو أمدوا لم يهزموا يومئذٍ وقيل لم يصبروا ولم يتقوا إلاّ في يوم الأحزاب فأمدهم الله بالملائكة حتى حاصروا قريظة (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال ههنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم (ق) عن أنس رضي الله عنه قال:» كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وقال عبدالله بن أبي أوفى كنا محاصرين قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال: أوضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيوميذٍ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحاً يسيراً «وقال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال بالصواب أن الله تعالى أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم انه قال للمؤمنين: «ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة» فوعدهم بثلاثة آلاف من الملائكة مدداً لهم ثم عدهم بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بهم ولا على أنهم لم يمدوا بهم فقد يجوز أن الله أمدهم وقد يجوز أن لا يكون أمدهم ولا يثبت ذلك إلاّ بنص تقوم به الحجة في ذلك. وقد ثبت بنص القرآن أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة كما في سورة الأنفال وأما يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها بأنهم أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لم ينهزموا ولم ينل منهم ما نيل منهم. فإن قلت فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في يوم أحد وانه رأى ملكين عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله قلت إنما كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد. وأما التفسير فقوله تعالى: إذ تقول للمؤمنين فعلى قول من قال: إن هذا كان يوم بدر. قال نظم الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم اذلة إذ تقول للمؤمنين ومن قال هذا يوم أحد يقول نظم الآية ان الله ذكر قصة أحد ثم أتبعه بقوله: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} فكذلك هو قادر أن ينصركم في سائر المواطن ثم رجع إلى قصة أحد فقال تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم} ومعنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر مع بلوغ المراد أن يمدكم ربكم. الإمداد إعانة الجيش فما كان على جهة القوة والإعانة يقال أمده إمداداً وما كان على جهة الزيادة يقال. فيه مده مدا، وقيل المد في الشر والإمداد في الخير بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين إنما وعدهم الله بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويثقوا قلوبهم ويثقوا بنصر الله ويعزموا على الثبات. بلى تصديق لوعد الله أي بلى نمدكم، وقيل بلى إيجاب لما بعد ألن يعني يكفيكم الأمداد بهم فأوجب الكفاية أن تصبروا أي على لقاء عدوكم وتتقوا يعني معصية الله ومخالفة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأتوكم يعني المشركين من فورهم هذا قال ابن عباس: ابتداء الأمر يوجد فيه ثم يوصل آخر فمن قال معنى من فورهم من وجههم أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر. ومن قال معناه من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر لأنهم رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم يوم بدر. يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة لم يرد خسمة آلاف سوى الثلاثة المتقدمة بل أراد معهم فمن قال إن هذا الإمداد كان يوم بدر قال: إن الله تعالى أمدهم بألف فلما سمعوا أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق على المسلمين ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم الآية على تقدير أن يجيء للمشركين المدد، فلما لم يمدوا لم يمد الله المسلمين بغير ألف وروى ابن الجوزي في تفسيره عن جبير بن مطعم عن علي بن أبي طالب قال: بينا أنا امتح من قليب بدر جاءت ريح ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أرَ اشد منها إلاّ التي قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم والريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه ومن الناس من ضم العدد القليل إلى الكثير. فقال لأن الله تعالى ذكر الألف في سورة الأنفال وذكر هنا ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن جعلناه على غزوة أحد فيكون المجموع ثمانية آلاف لأنه ليس فيها ذكر الألف المفردة {مسومين} قرئ بفتح الواو وبكسرها فمن فتح الواو أراد أن الله سومهم ومعناه معلمين قد سوموا فيهم مسومون والسومة والسيما العلامة وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها قال عنترة: فتعرفوني أنني أنا ذلكم *** شاكي سلاح في الحوادث معلم ومن كسر الواو نسب الفعل إلى الملائكة والمعنى أنهم أعلموا انفسهم بعلامات مخصوصة أو أعلموا خيلهم واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خيل بلق وعليهم عمائم صفر. وقال علي وابن عباس: كان عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين اكتافهم وقال هشام بن عروة والكلبي: كانت عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم، وقال قتادة والضحاك: كانوا قد أعلموا بالعهن بالصوف المصبوغ في نواصي خيلهم وأنابها وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» ذكره البغوي بغير سند وقيل كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك وقيل كانوا قد سوموا أنفسهم بسيما القتال.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} قوله تعالى: {وما جعله الله} يعني هذا الوعد والمدد {إلاّ بشرى لكم} يعني بشارة بأنكم تنصرون فتستبشرون به {ولتطمئن} أي ولتسكن {قلوبكم به} أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم {وما النصر إلاّ من عند الله} يعني لا تحيلوا النصر على الملائكة والجند وكثرة العدد، فإن النصر من عند الله لا من عند غيره والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم وفيه تنبيه على الإعراض عن الأسباب والإقبال على مسبب الأسباب {العزيز الحكيم} يعني فاستعينوا به وتوكلوا عليه لأن العز وهو كمال القدرة والقوة والحكم وهو كمال العلم فلا تخفى عليه مصالح عباده {ليقطع طرفاً من الذين كفروا} هذه متعلق بقوله ولقد نصركم الله ببدر، والمعنى أن المقصود من نصركم ببدر ليقطع طرفاً أي ليهلك طائفة من الذين كفروا وقيل معناه ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر فقتل يوم بدر من قادتهم وساداتهم سبعون وأسر سبعون ومن حمل الآية على غزوة أحد قال: قد قتل منهم ستة عشر وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {أو يكبتهم} أصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه والمعنى أنه يصرعهم على وجوههم والمراد منه القتل والهزيمة أو الإهلاك أو اللعن {فينقلبوا خائبين} أي بالخيبة لم ينالوا شيئاً من الذي أملوه من الظفر بكم. قوله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} اختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل: إنها نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من القراء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة وهي بين مكة وعسفان وأرض هذيل وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد بعثهم ليعلموا الناس القرآن والعلم وأمر عليهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعوة على جماعة من تلك القبائل باللعن (خ) عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللّهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعدما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد» فأنزل الله تعالى عليه ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون (ق) عن أبي هريرة قال: «لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية قال:» اللّهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف « زاد في رواية: «اللهم العن فلاناً وفلاناً لأحياء من العرب حتى أنزل الله تعالى ليس لك من الأمر شيء» الآية سماهم في رواية يونس اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله قال ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فإنهم ظالمون وقيل إنها نزلت يوم أحد اختلفوا في سببها فقيل: إن عتبة بن أبي وقصاص شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته. (ق) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله» تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}. وقيل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه أن أكثرهم يسلمون وقيل ان النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على عمه حمزة ورأى ما صنعوا به من المثلة أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية. وقال العلماء: وهذه الأشياء كلها محتملة فلا يبعد حمل الآية في النزول على كلها ومعنى الآية ليس لك من أمر مصالح عبادي شيء إلاً ما أوحى إليك، فإن الله تعالى هو مالك أمرهم فإمّا ان يتوب عليهم ويهديهم فيسلموا أو يهلكهم ويعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل ليس لك مسألة هلاكهم والدعاء عليهم لأنه تعالى أعلم بمصالحهم فربما تاب على من يشاء منهم وقيل معناه ليس لك من أمر خلقي شيء إلاّ ما وافق أمري إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وقيل إن قوله أو يتوب عليهم معطوف على قوله ليقطع طرفاً وقوله ليس لك من الأمر شيء كلام معترض بين المعطوف عليه والتقدير ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله. قال بعض العلماء: والحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم من الدعاء عليهم ولعنهم أن الله تعالى علم من حال بعض الكفار أنه سيسلم فيتوب عليهم أو سيولد من بعضهم ولد يكون مسلماً براً تقياً فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من الدعاء عليهم لأن دعوته صلى الله عليه وسلم مجابة. فلو دعا عليهم بالهلاك هلكوا جميعاً لكن اقتضت حكمة الله وما سبق في علمه إبقاءهم ليتوب على بعضهم وسيخرج من بعضهم ذرية صالحة مؤمنة، ويهلك بالقتل والموت وهو قوله أو يعذبهم فيحتمل أن يكون المراد بعذابهم في الدنيا وهو القتل والأسر وفي الآخرة وهو عذاب النار {فإنهم ظالمون} هو كالتعليل لعذابهم والمعنى إنما يعذبهم لأنهم ظالمون
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)} قوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} هذا تأكيد لما قبله من قوله ليس لك من الأمر شيء. والمعنى إنما يكون لمن له ما في السموات وما في الأرض وليس ذلك إلاّ الله تعالى وليس لأحد معه أمر {يغفر لمن يشاء} بفضله ورحمته {ويعذب من يشاء} بعدله يحكم فيهم بما يشاء لا منازع له في حكمه ولا معارض له في فعله {والله غفور رحيم} يعني أنه تعالى يستر ذنوب عباده ويغفرها لهم ويرحمهم بترك العقوبة عنهم عاجلاً، وإنما يفعل ذلك على سبيل التفضل والإحسان إلى عباده لا على سبيل الوجوب عليه، لأنه تعالى لو أدخل جميع خلقه الجنة لكان ذلك برحمته ولو أدخل جميع خلقه النار كان ذلك بعدله لكن جانب المغفرة والرحمة غالب. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} أراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية عند حلول الدين من زيادة المال وتأخير الأجل كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان دين فإذا جاء الأجل ولم يكن للمديون ما يؤدي قال له صاحب الدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل فربما فعلوا ذلك مراراً فيصير الدين أضعافاً مضاعفة فنهى الله عز وجل عن ذلك، وحرم أصل الربا ومضاعفته {واتقوا الله} يعني في أكل الربا فلا تأكلوه {لعلكم تفلحون} أي لكي تسعدوا بثوابه في الآخرة لأن الفلاح يتوقف على التقوى فلو أكل وكل يتق لم يحصل الفلاح، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا أعقبة.
{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} قوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} يعني واتقوا أيها المؤمنون أن تستحلوا شيئاً مما حرم الله. فإن من استحل شيئاً مما حرم الله فهو كافر بالإجماع ويستحق النار بذلك قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار قال بعضهم: إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد لله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه يجتنبوا محارمه. وقال الواحدي: في الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله تعالى لأنه قال أعدت للكافرين فجعلها معدة للكافرين دون المؤمنين {وأطيعوا الله} يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه من أكل الربا وغيره {والرسول} أي وأطيعوا الرسول أيضاً فإن طاعته طاعة الله قال محمد بن إسحاق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد {لعلكم ترحمون} أي لكي ترحموا وما تعذبوا إذا أطعتم الله ورسوله فإن طاعة الله مع معصية رسوله ليست بطاعة. قوله عز وجل: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} يعني وبادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الأعمال الصالحة المأمور بفعلها قال ابن عباس: إلى الإسلام ووجهه أن الله تعالى ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة وذلك لا يحصل إلاّ بسبب الإسلام لأنه يجب ما قبله وعن ابن عباس أيضاً إلى التوبة لأن التوبة من الذنوب توجب المغفرة وقال علي بن أبي طالب: إلى داء الفرائض لأن اللفظ مطلق فيعم الكل وكذا وجه من قال إلى جميع الطاعات وروي عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى يعني تكبيرة الإحرام وقيل إلى الإخلاص في الأعمال لأن المقصود من جميع العبادات هو الإخلاص وقيل إلى الهجرة وقيل إلى الجهاد {وجنة} أي وسارعوا إلى جنة وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب وقيل إشعار بأنه لا بد من المسارعة إلى التوبة الموجبة للمغفرة وذلك بترك المنهيات والمسارعة إلى الأعمال الصالحة المؤدية إلى الجنة {عرضها} أي عرض الجنة {السموات والأرض} يعني كعرض السموات والأرض لأن نفس السموات والأرض ليس عرضاً للجنة والمراد سعتها وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف بطولها، والمراد وصف الجنة بالسعة والبسط فشبهت بأوسع شيء علمه الناس وذلك أنه لو جعلت السموات والأرض طبقاً طبقاً ثم وصل البعض بالبعض حتى يكون طبقاً واحداً كان ذلك مثل عرض الجنة فأما طولها فلا يعلمه إلاّ الله تعالى. وقيل المراد بالعرض السعة كما تقول العرب بلاد عريضة أي واسعة عظيمة قال الشاعر: كأن بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوب حابل والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة. وروي أن هرقل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار قيل معناه والله أعلم بذلك أنه دار الفلك حصل النهار في جانب والليل في ضد ذلك الجانب فكذلك الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل. وروى طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيتم قولكم وجنة عرضها السموات والأرض. فأين النار؟ فقال عمر بن الخطاب أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار وإذا جاء النهار فأين يكون الليل فقالوا إنها لمثلها في التوراة ومعناه حيث يشاء الله تعالى. فإن قلت قال الله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وأراد بالذي وعدنا به الجنة ومذهب أهل السنة أنها في السموات وإذا كانت الجنة في السموات فكيف يكون عرضها السموات والأرض قلت المراد من قولنا إنها في السموات إنها فوق السموات وتحت العرش كما سئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء هي أم في الأرض؟ فقال: أي أرض وسماء تسع الجنة قيل له: فأين هي؟ قال فوق السموات تحت العرش وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفردوس فقال وسقفها عرش الرحمن وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع وقيل: إن باب الجنة في السماء وعرضها كعرض السموات والأرض {أعدت للمتقين} أي هيئت للمتقين وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن. قوله عز وجل: {الذين ينفقون في السراء والضراء} يعني في العسر واليسر لا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور ولا في حال محنة وبلاء. وسواء كان الواحد منهم في عرس أو في حبس فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفس. وكانت الحاجة إلى إخراج المال في ذلك الوقت أعظم الأحوال للحاجة إليه في مجاهدة الأعداء ومواساة الفقراء من المسلمين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل» أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلاّ سبغت أو وفت على جلده حتى تخفي ثيابه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلاّ لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع» الجنة الدرع من الحديد (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللّهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً» (ق) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك» (ق) عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزية الجنة كل خزنة باب أي قل هلم فقال أبو بكر: فقال يا رسول الله ذاك الذي لا توي عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن تكون منهم» قوله أي فل يعني يا فلان وليس بترخيم والتوي الهلاك يعني ذاك الذي لا هلاك عليه. وقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} يعني والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه والكظم حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ هو أن يمتلئ غيظاً فيرده في جوفه ولا يظهره بقول ولا فعل ويصبر عليه ويسكت عنه ومعنى الآية أنهم يكفون غيظهم عن الأمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم عن سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخبره في أي الجورشاء» أخرجه الترمذي وأبو داود (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وروي عن عائشة رضي الله عنها أن خادماً لها غاظها فقالت لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء {والعافين عن الناس} يعني إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذه فتكون الآية على العموم وقيل أراد بالناس المماليك لسوء أدب يقع منهم، فتكون على الخصوص وقيل يعفون عمن ظلمهم وأساء إليهم وهو قريب من القول الأول {والله يحب المحسنين} يحتمل أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويحتمل أن تكون للعهد فتكون إشارة إلى المذكورين في الآية والإحسان إلى الغير إنما يكون بإيصال النفع إليه وبدفع الضرر عنه وقيل الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة. وقيل المحسن هو الذي يعم بإحسانه كل أحد كالشمس والمطر والريح، وقيل الإحسان وقت الإمكان وليس عليك في كل وقت إحسان. وقيل الإحسان هذه الخصال المذكورة في هذه الاية فمن فعلها فهو محسن. ولما كانت هذه الخصال إحساناً إلى الغير ذكر الله ثوابها بقوله والله يحب المحسنين فإن محبة الله تعالى للعبد أعظم درجات الثواب.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} قوله عز وجل: {والذين إذا فعلوا فاحشة} قال ابن مسعود رضي الله عنه قال المؤمنون للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وروى عطاء بن ابن عباس أنها نزلت في تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمراً فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الاية في رواية أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين أحدهما أنصاري والآخر ثقفي، فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فاشترى لهم ذات يوم لحماً فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله وذكرت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به إلى أبي بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً فقال الأنصاري: هلكت وذكر القصة فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال لهما: مثل ذلك فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما مثل مقالتهما فأنزل الله عز وجل: {والذين إذا فعلوا فاحشة} يعني فعله فاحشة خارجة عما أذن الله فيه والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد، قال جابر: الفاحشة الزنا. وقوله تعالى: {أو ظلموا أنفسهم} ظلم النفس هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة وقيل الفاحشة مما يكون فعله كاملاً في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان {ذكروا الله} يعني ذكروا وعيد الله وعقابه وأن الله يسألهم عن ذلك يوم الفزع الأكبر وقيل ذكروا جلال الله الموجب للحياء منه. وقيل ذكروا لله باللسان عند الذنوب وهو قوله تعالى: {فاستغفروا لذنوبهم} يعني لأجل ذنوبهم فتابوا منها واقلعوا عنها نادمين على فعلها عازمين أن لا يعودوا إليها وهذه شروط صحة التوبة المقبولة {ومن يغفر الذنوب إلاّ الله} وصف نفسه بسعة الرحمة وقرب المغفرة وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلاّ إلى فضله وكرمه وإحسانه وعفوه ورحمته وفيه تنبيه على أن العبد لا يطلب المغفرة إلاّ منه وأنه القادر على عقاب المذنب وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فثبت أنه لا يجوز طلب المغفرة إلاّ منه {ولم يصروا على ما فعلوا} يعني ولم يقيموا على الذنوب ولم يثبتوا عليها ولكن تابوا منها وأنابوا واستغفروا قيل الإصرار هو ترك الاستغفار عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة» أخرجه أبو داود وقال: حديث حسن غريب وعنده عوض ولو عاد ولو فعل {وهم يعلمون} قال ابن عباس: وهم يعلمون أنها معصية وأن لهم رباً يغفرها وقيل وهم يعلمون أن الإصرار ضار وقيل معناه وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب وقيل وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت وقيل معناه وهو يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم قال ثابت البناني بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة إلى آخرها.
فصل في فضل الاستغفار عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني كنت إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله منه ما يشاء أن ينفعني. وإذا حدثني أحد من الصحابة استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مؤمن أو قال ما من رجل يذنب ذنباً فيقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلاّ غفر الله له ثم قرأ هذه الآية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله} إلى آخر الآية» أخرجه الترمذي وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث قد رواه غير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه ورواه مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة فوقفاه ولم يرفعا ولا يعرف لأسماء إلاّ هذا الحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب» أخرجه أبو داود (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» (ق) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى قال: «إذا أذنب عبد ذنباً فقال: اللّهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: إن عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب» وفي رواية اعمل ما شئت قد غفرت لك «قال عبد الأعلى لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم وأتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة «أخرجه الترمذي وقال حديث حسن عنان السماء بفتح العين قيل هو السحاب وقيل هو ما عن لك منها أي ما ظهر لك منها وقراب الأرض بضم القاف وروي بكسرها والضم أشهر وهو ما يقارب ملأها عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف «أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم قال حديث حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» كل ذنب عسى الله أن يغفر أو قال عسى أن يغفره الله إلاّ من مات مشركاً ومن قتل مؤمناً متعمداً «أخرجه أبو داود اه.
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} قوله عز وجل: {أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره في قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} الآية {جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار} معنى الآية ان المطلوب بالتوبة أمران أحدهما الأمن من العقاب وإليه الإشارة بقوله مغفرة من ربهم والثاني إيصال الثواب وإليه الإشارة بقوله وجنات تجري من تحتها الأنهار أي ذلك لهم ذخر لا يبخس وأجر لا يوكس {خالدين فيها} أي في الجنات {ونعم أجر العاملين} أي ونعم ثواب المطيعين يعني الجنة.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} قوله عز وجل: {قد خلت من قبلكم سنن} يعني قد انقضت من قبلكم سنة الله في الأمم الماضية بالهلاك والاستئصال لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها والبقاء فيها فانقرضوا ولم يبق منهم أحد وقيل في معنى السنة الطريقة المستقيمة والمثال المتبع. لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوه رضي الله عنهم بذلك. وقيل سنن أي شرائع وقيل سنن أي أمم والسنة الأمة ومعنى الآية قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لإهلاكهم {فسيروا في الأرض} أمر ندب لا سبيل الوجوب بل المقصود تعرف أحوال الأمم الماضين بقوله {فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} فرغب أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها. وفيه أيضاً زجر للكافر عن كفره لأنه إذا تأمل أحوال الكفار وإهلاكهم صار ذلك داعياً إلى الإيمان لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس كما قيل: إن آثارنا تدل علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لهم في غزوة أحد يقول فإني إنما أمهلت الكفار حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لهم في إهلاكهم ونصر محمد صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله عز وجل: {هذا} يعني القرآن وقيل هو اسم إشارة إلى ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده {بيان للناس} يعني عامة {وهدى} يعني من الضلالة {وموعظة للمتقين} يعني خاصة وقيل في الفرق بين البيان والهدى والموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة والبيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة والهدى هو طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين. فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى والثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خصص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم.
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} قوله عز وجل: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} نزلت يوم أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية وحث فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد على ما أصابهم من الجراح والقتل. وكان قد قتل يوم أحد من الأنصار سبعون رجلاً ومن المهاجرين خمسة رجال منهم حمزة بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصعب بن عمير. ومعنى الآية ولا تهنوا أي ولا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا يعني على من قتل منكم لأنهم في الجنة {وأنتم الأعلون} يعني بالنصر والغلبة عليهم وأن العاقبة لكم وقال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم في الشعب فأقبل خالد بن الوليد في خيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يعلوه علينا اللهم لا قوة لنا إلاّ بك» فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله تعالى: {وأنتم الأعلون} وقيل أنتم الأعلون لأن حالكم خير من حالهم لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار وأنتم تقاتلون على الحق وهم يقاتلون على الباطل. وقيل وأنتم الأعلون في العاقبة لأنكم تظفرون بهم وتستولون عليهم {إن كنتم مؤمنين} أي إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن كنتم مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق. وقوله تعالى: {إن يمسكم قرح} قرئ بضم القاف وبفتحها وهما لغتان ومعناهما واحد قيل إنه بالفتح مصدر وبالضم اسم وقيل إنه بالفتح اسم للجراحة وبالضم ألم للجراحة الاية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة يقول: إن يمسسكم أيها المسلمون قرح يوم أحد {فقد مس القوم} يعني في يوم بدر وقيل إن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجراح والقتل فقد قتل منهم نيف وعشرون رجلاً وكثرت الجراحات فيهم {وتلك الأيام نداولها بين الناس} المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين ثم منهم إلى غيرهم والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين (خ) عن البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً وهم الرماة عبدالله بن جبير. فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم الله. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبدالله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبدالله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله والرسول يدعوكم في اخراكم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين رجلاً وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هولاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثله لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه؟ فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان. إن لنا عزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» قال البغوي وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وفي حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال الزجاج الدولة للمسلمين على الكفار لقوله تعالى وإن جندنا لهم الغالبون فكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وليعلم الله الذين آمنوا} يعني إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة وقيل معناه وليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلاّ أن السبب العلم وهو ظهور الصبر حذف هنا وقيل معناه ليعلم الله ذلك واقعاً منهم لأن الله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده ولا يحتاج إلى سبب حتى يعلم والمعنى ليقع ما علمه عياناً ومشاهدة للناس والمجازاة إنما تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد وقيل معناه ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيماً. وقيل معناه ليحكم الله بالامتياز بين المؤمن والمنافق فوضع العلم موضع الحكم لأن الحكم لا يحصل إلاّ بعد العلم {ويتخذ منكم شهداء} يعني وليكرم قوماً منكم بالشهادة ممن أراد أن يكرمهم بها وذلك لأن قوماً من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر فيقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة واختلفوا في معنى الشهيد فقيل الشهيد الحي لقوله تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون فأرواحهم حية حضرت دار السلام وشهدتها وأرواح غيرهم لا تشهدها وقيل سمي شهيداً لأن الله تعالى شهد له بالجنة. وقيل سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين على الأمم لأن الشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة لأن منصب الشهادة منصب عظيم ودرجة عالية {والله لا يحب الظالمين} يعني المشركين وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي وقيل هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم ويسرون الكفر، والمعنى والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد.
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} {وليمحص الله الذين آمنوا} أي وليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم وأصل المحص في اللغة التنقية والإزالة {ويمحق الكافرين} أي يفنيهم ويهلكهم ومعنى الآية إن قتلكم الكافرون فهو شهادة وتطهير لكم وإن قتلتموهم أنتم فهو محقهم واستئصالهم. قوله عز وجل: {أم حسبتم} أي بل حسبتم وظننتم والمراد به الإنكار والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون {أن تدخلوا الجنة} وتنالوا كرامتي وثوابي {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} قال الإمام فخر الدين الرازي: ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقديره إن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وقال الواحدي النفي في الآية واقع على العلم والمعنى على الجهاد دون العلم وذلك لما فيه من الإيجاز في انتفاء جهاد لو كان لعلمه والتقدير: ولما يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم فجرى النفي على العلم للإيجاز على سبيل التوسع في الكلام إذ المعنى مفهوم من غير إخلال. وقال الزجاج: المعنى ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين أي ولما يعلم الله ذلك واقعاً منكم لأنه يعلمه غيباً وإنما يجازيهم على عملهم وقال الطبري يقول ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به {ويعلم الصابرين} يعني في الحرب وعلى ما نالهم في ذات الله عز وجل من جراح وألم ومكروه وفي هذه الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد والمعنى أم حسبتم أيها المهزمون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا وبذلوا مهجهم لربهم عز وجل وصبروا على ألم الجراح والضرب وثبتوا لعدوهم من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم. قوله تعالى: {ولقد كنتم تمنون من قبل أن تلقوه} قال ابن عباس: لما أخبر الله عز وجل المؤمنين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بما فعل بشهدائهم يوم بدر من الكرامة رغبوا في ذلك فتمنّوا قتالاً يستشهدون فيه فيلحقون بإخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن أنهزموا إلاّ من شاء الله منهم فأنزل الله هذه الآية وقيل إن قوماً من المسلمين تمنّوا يوماً كيوم بدر ليقاتلوا فيه ويستشهدوا فأراهم الله يوم أحد ومعنى قوله له تمنون الموت أي تطلبون أسباب الموت وهو القتال والجهاد من قبل أن تلقوه أي من قبل من تلقوا يوم أحد {فقد رأيتموه} يعني رأيتم ما كنتم تتمنّون والهاء في رأيتموه عائدة على الموت أي رأيتم أسبابه معاينين له شاهدين قتل من قتل من إخوانكم بين أيديكم {وأنتم تنظرون} قيل ذكره تأكيداً. وقال الزجاج: معناه فقد رأيتموه وأنتم بصراء كما تقول: رأيت كذا وكذا وليس في عينك علة أي رأيته رؤية حقيقية وقيل: معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم فلم انهزمتهم.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} قوله عز وجل: {وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل} قال أهل المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل وجعل عبدالله بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلاً وقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من خلفنا فإن كانت لنا أو علينا لا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم فأنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وكانت قريش على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب وحمل النبي صلى الله عليه وسلم فهزموهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ سيفاً وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر في مشيته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلاّ في هذا الموضع» فلما نظرت الرماة إلى المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة اشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله وحمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزموهم ورمى عبدالله بن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه وكان قد قتل يومئذٍ فأخذت منها قطعة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها وأقبل عبدالله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يومئذٍ صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع وقال: إني قد قتلت محمداً وصاح صارخاً ألا إن محمداً قد قتل ويقال إن الصارخ إبليس اللعين فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: «ارم فداك أبي وأمي» وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثة وكان الرجل يمر معه جعبة النبل فيقول: «انثرها لأبي طلحة» وكان إذا رمى تشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت وجنته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادت أحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول لانجوت إن نجوت فقال: القوم يا رسول الله ألا تعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه» حتى إذا دنا منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله وطعنه في عنقه وخدشه خدشه فسقط عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلني محمد. فاحتمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس بل لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي أنا أقتلك؟ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني بها فلم يلبث بعد ذلك إلاّ يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف (خ) عن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله» قالوا وفشا في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ فقال: بعض المسلمين ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وجلس بعض الصحابة وألقوا ما بأيديهم وقال أناس من المنافقين إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول وقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال قد عرفت عينيه تزهران تحت المغفرة فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن أسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله عز وجل: {وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل} ومعنى الآية فسيخلو محمد كما خلت الرسل من قبله فكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلو أنبيائهم فعليكم أنتم تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعث الرسول تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين ظهراني قومه ومحمد اسم علم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه وهو الذي كثرت خصاله المحمودة والمستحق جميع المحامد لأنه الكامل في نفسه صلى الله عليه وسلم فأكرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى فسماه محمداً وأحمد وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: ألم تر أن الله أرسل عبده *** ببرهانه والله أعلى وأمجد أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهور يلوح ويشهد وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش من محمود وهذا محمد (ق) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي وسماه الله رؤوفاً رحيماً (م) عن أبي موسى الأشعري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى ونبي التوبة ونبي الرحمة» قوله المقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده والرسول هو المرسل ويكون بمعنى الرسالة والمراد به هنا المرسل بدليل قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} يعني أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل وترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه وحاصل الكلام إن الله تعالى بيّن أن موت محمد صلى الله عليه وسلم أو قتله لا يوجب ضعفاً في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله وأن أتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم {ومن ينقلب على عقبيه} يعني فيرتد عن دينه ويرجع إلى الكفر {فلن يضر الله شيئاً} يعني بارتداده لأن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين لأنه تعالى غني عن العالمين وإنما يضر المرتد والكافر نفسه {وسيجزي الله الشاكرين} يعني الثابتين على دينهم الذين لم ينقلبوا عنه لأنهم شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام وثباتهم عليه فسماهم الله شاكرين لما فعلوا والمعنى وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته وروى ابن جبير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {وسيجزي الله الشاكرين} قال الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه وكان علي يقول أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أخبار الله وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله تعالى.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} قوله عز وجل: {وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله} أي بأمر الله وقضائه وقدره وعلمه وذلك أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلاّ بإذن الله تعالى وأمره والمراد من الآية تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وأن الحذر لا يدفع المقدور وأن أحداً لا يموت قبل أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الخوف والجبن. وفي الآية أيضاً ذكر حفظ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله تعالى من عدوه سالماً مسلماً لم يضره شيء {كتاباً مؤجلاً} يعني مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. والمعنى أن الله تعالى كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحد على تغييره أو تقديمه أو تأخيره وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلق {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} يعني من يرد بعمله وطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله والمعنى نؤته منها ما نشاء على ما قدرناه له نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة {ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} يعني من يرد بعمله الاخرة نؤته ثوابه فيها نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. واعلم أن هذه الآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال ذلك لأن الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد فإن كان يريد بعمله الدنيا فليس له جزاء إلاّ فيها وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضاً فيها (ق) عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وفي رواية «بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها»، وفي رواية «ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة وما كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بن عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلاّ ما كتب الله له». وقوله تعالى: {وسنجزي الشاكرين} يعني المؤمنين المطيعين الذين لم يشغلهم شيء عن الجهاد ولم يريدوا بأعمالهم إلاّ الله تعالى والدار الآخرة. قوله عز وجل: {وكأين من نبي} أي وكم من نبي {قتل معه} وقرئ قاتل معه فمن قرأ قتل بضم القاف فله أوجه: أحدها أن يكون القتل راجعاً على النبي وحده فعلى هذا يكون الوقف على قتل لأنه كلام تام وفيه إضمار تقديره قتل ومعه ربيون كثير. ويكون معناه قتل حال ما كان معه ربيون كثير والمعنى أن كثيراً من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم وما استكانوا بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا مثلهم. الوجه الثاني أن القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون أن المراد البعض ويكون قوله: {فما وهنوا} راجعاً إلى الباقين والمعنى وكأينٍ من نبي قتل وبعض من كان معه فما ضعف الباقون لقتل من قتل من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا كذلك. الوجه الثالث أن يكون القتل نال الربيين لا النبي والمعنى وكأيٍّ من نبي قتل من كان معه وعلى دينه ربيون كثير ومن قرأ قاتل معه ربيون كثير أصابهم بل استمروا على جهاد عدوهم لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه فكان ينبغي لكم أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد، وحجة هذه القراءة ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا أن نبياً قُتِلَ في القتال وقوله {ربيون كثير} قال ابن عباس جموع كثيرة وقيل الربيون الألوف وقيل الربية الواحدة عشرة آلاف وقيل ألف وقيل ربيون يعني فقهاء علماء وقيل الربيون هم الأتباع {فما وهنوا} أي فما جبنوا عن الجهاد في سبيل الله {لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا} يعني عن مجاهدة عدوهم بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب {وما استكانوا} يعني وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم وهذا تعريض بما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الارجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعفهم عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان والمقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء وأتباعهم لتقتدي هذه الأمة بهم وترغيب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد {والله يحب الصابرين} يعني في الجهاد، والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طلب الآخرة ولم يظهر الجزع والعجز فإن الله تعالى يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وإيصال الثواب له وإدخال الجنة مع أوليائه وأصفيائه.
|